فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في حكم استسلاف الجزية:

فإن قيل فهل للإمام أن يستسلف منهم الجزية؟
قلنا ليس له ذلك إلا برضاهم كما ليس له أن يستسلف الزكاة إلا برضا رب المال بل الجزية أولى بالمنع فإنها تسقط بالإسلام وبالموت في أثناء السنة وتتداخل عند أبي حنيفة فهي تتعرض للسقوط قبل الحول وبعده.
فإن قيل فهل له أن يأخذ منهم في أثناء السنة بقسط ما مضى منها.
قيل هذا فيه نزاع فأبو حنيفة يجوز أن يأخذ في كل شهر بقسطه ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان:
قال أبو المعالي الجويني أظهرهما أنه ليس له ذلك فإن المطالبة في آخر السنة عند استمرار الأحوال بذلك جرت سنن الماضين وسنن المتقدمين والجزية موضوعها على الإمهال كالزكاة.
فإن قيل فما تقولون لو سقط عنه الوجوب في أثناء السنة بموت أو عمى أو زمانة أو إسلام هل تؤخذ منه بقسط ما مضى.
قيل الصحيح من المذهب أنها تسقط عنه وألا يطالب بقسط ما مضى ومن الأصحاب من لم يحل في ذلك نزاعا ولكن أبا عبدالله بن حمدان حكى في ذلك وجهين فقال ومن أسلم في الحول أو مات أو جن جنونا مطبقا أو أقعد أو عمي فيه وجهان.
فإن قيل فإن اتفق اجتماع ديون الآدميين والجزية فهل تقدم الجزية أو الديون.
قيل أما أصحاب الشافعي فبنوا ذلك على الأصل وقالوا هذا مستحق بالجزية يحق حقوق الله كالزكاة ويحق حقوق الآدميين وليست من القرب فعلى هذا تقع المحاصة بينها وبين غيرها من الديون.
ومنهم من قال هي من حقوق الله فإنه لا مستحق لها معينا ولا تسقط بإسقاط الآدمي وهي عقوبة على الكفر وصغار لأهله.
وعلى هذا فيخرج على الأقوال الثلاثة في تقديم حق الله أو حق الآدمي أو وقوع المحاصة.
ولأصحاب أحمد أيضا ثلاثة أوجه مثل هذه.

.فصل في الجزية والخراج وما بينهما من اتفاق وافتراق:

الخراج هو جزية الأرض كما أن الجزية خراج الرقاب وهما حقان على رقاب الكفار وأرضهم للمسلمين ويتفقان في وجوه ويفترقان في وجوه:
فيتفقان في أن كلا منهما مأخوذ من الكفار على وجه الصغار والذلة وأن مصرفهما مصرف الفيء وأنهما يجبان في كل حول مرة وأنهما يسقطان بالإسلام على تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى.
ويفترقان في أن الجزية ثبتت بالنص والخراج بالاجتهاد وأن الجزية إذا قدرت على الغني لم تزد بزيادة غناه والخراج يقدر بقدر كثرة الأرض وقلتها والخراج يجامع الإسلام حيث نذكر إن شاء الله تعالى والجزية لا تجامعه بوجه ولذلك يجتمعان تارة في رقبة الكافر وأرضه ويسقطان تارة وتجب الجزية حيث لا خراج والخراج حيث لا جزية. اهـ.

.تفسير الآية رقم (30):

قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان المراد التعميمم أتى بها نكرة لتفيد ذلك، ويؤيد هذا ما نقل العلماء عن الرواة لفتوح البلاد منهم الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي، قال في كتابه الاكتفاء في وقعة جلولاء من بلاد فارس: قالوا: قال بعضهم: فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدلالة مع الجزي عن أيديهم على قدر طاقتهم، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وإنما أخذوا الجزية من المجوس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وأخذها منهم لأنهم أهل كتاب في الأصل، قال الشافعي في باب المجمل والمفسر من كتاب اختلاف الحديث: والمجوس أهل كتاب غير التوراة والإنجيل وقد نسوا كتابهم وبدلوه، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الجزية منهم؛ أخبرنا سفيان عن أبي سعد سعيد بن مرزبان عن نصر بن عاصم قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي: علام تؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب؟ فقام إليه المستورد فأخذ بلببه فقال: يا عدو الله! تطعن على أبي بكر وعلى عمر وعلي أمير المؤمنين- يعني عليًا- وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب به إلى القصر فخرج علي- رضى الله عنهم- عليهما فقال: البدا! البدا! فجلسا في ظل القصر فقال علي: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع عليهم فدعا أهل مملكته فقال: تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم وقد كان آدم ينكح بنيه من بناته، فأنا على دين آدم، فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم، وهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر- رضى الله عنهما- منهم الجزية.
ولما أمر بقتالهم ووصفهم بما هو السبب الباعث على ذلك، عطف عليه بعض أقوالهم المبيحة لقتالهم الموجبة لنكالهم فقال: {وقالت} أي قاتلوا أهل الكتاب لأنهم كفروا بما وصفناهم به وقالت {اليهود} منهم كذبًا وبهتانًا {عزير} تنوينُ عاصم والكسائي له موضحٌ لكونه مبتدأ، والباقون منعوه نظرًا إلى عجمته مع العلمية وليس فيه تصغير، والخبر في القراءة قولهم: {ابن الله} أي الذي له العلو المطلق فليس كمثله شيء، وعزير هذا هو المسمى عندهم في سفر الأنبياء ملاخيا، ويسمى أيضًا العازر وهو الأصل والعزير تعريبه، وأما الذي جمع لهم هذه التوراة التي بين أيديهم فقال السمؤال بن يحيى المغربي الذي كان يهوديًا فأسلم: إنه شخص آخر اسمه عزرا، وإنه ليس بنبي.
ذكر ذلك في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود، وهو كتاب حسن جدًا، وكان السموأل هذا مع تمكنه من المعرفة بشريعة اليهود وأخبارهم متمكنًا من علوم الهندسة وغيرها، وكان فصيحًا بليغًا وكان حسن الإسلام يضرب المثل بعقله، ورأيت اليهود في غاية النكاية منه، وأراني بعضهم رسالة إليه لبعض أحبارهم يسفه فيها رأيه في إسلامه ويشبه عليه بأشياء خطابيه وشعرية، فأجابه بجواب بديع افتتحه بقوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142] ثم رد كلامه أحسن رد ثم قال له ما حاصله: دع عنك مثل هذه الخرافات، وأجب عن الأمور التي ألزمتكم بها في كتاب غاية المقصود، فما أحار جوابًا، ثم القائل لهذا القول منهم روى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنهم أربعة، وقيل: قائله واحد وأسند إلى الكل كما يقال: فلان يركب الخيول وقد لا يكون له إلا فرس واحد، وهو كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس} [آل عمران: 173] وقيل: كان فاشيًا فيهم فلما عابهم الله به تركوه وهم الآن ينكرونه، والله تعالى أصدق حديثًا {وقالت النصارى} أي منهم إفكًا وعدوانًا {المسيح} وأخبروا عنه بقولهم: {ابن الله} أي مع أن له الغنى المطلق والكمال الأعظم، والمسيح هذا هو ابن الله مريم بنت عمران؛ ثم استأنف قوله مترجمًا قولي فريقيهم: {ذلك} أي القول البعيد من العقول المكذب للنقول: {قولهم بأفواههم} أي حقيقة لم يحتشموا من قوله مع سخافته، وهو مع ذلك قول لا تجاوز حقيقته الأفواه إلى العقول لأنه لا يتصوره عاقل، بل هو قول مهمل كأصوات الحيوانات العجم لا يتحقق له المعنى؛ قال: ومعناه الحال أن قائله لا عقل له، ليس له معنى وراء ذلك، ولبعده عن أن يكون مقصودًا لعاقل عبر فيه بالأفواه التي هي أبعد من الألسنة إلى القلوب.
ولما كان كأنه قيل: فما لهم إذا كان هذا حالهم قالوه؟ قال ما حاصلة: إنهم قوم مطبوعون على التشبه بمن يفعل المفاسد كما أنهم تشبهوا بعبدة الأوثان، فعبدوها غير مرة والأنبياء بين أظهرهم يدعونهم إلى الله وكتابهم ينادي بمثل ذلك وينذرهم أشد الإنذار {يضاهئون} أي حال كونهم يشابهون بقولهم هذا {قول الذين كفروا} أي بمثله وهو العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله، كما أنهم لما رأوا الذين يعكفون على أصنام لهم قالوا: {يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}.
ولما كان لا يمتنع أن يكون الذين شابهوهم إنما كانوا بعدهم أو في زمانهم من قبل أن يبين فساد قولهم، نفى ذلك بقوله مشيرًا بحرف الجر إلى أن كفرهم لم يستغرق زمن القبل: {من قبل} أي من قبل أن يحدث منهم هذا القول، وهذا دليل على أن العرب غيروا دين إسماعيل عليه السلام، اجترؤوا على مثل هذا القول قبل إيقاع بخت نصر باليهود أو في حدوده، وليس ذلك ببعيد مع طول الزمان وإغواء الشيطان، فقد كان بين زمان إبراهيم وعزير عليهما السلام نحو ألف وخمسمائة سنة- هذا على ما ذكره بعض علماء أهل الكتاب عن كتبهم وأيده ما ذكره المسعودي من مروج الذهب في تاريخ ملوك بابل من نمرود إلى بخت نصر: وذكر بعض المؤرخين أن بين الزمنين زيادة على ألفي سنة على أنهم قد نقلوا ما هو صريح في كفر العرب في ذلك الزمان فرووا عن هشام بن الكلبي أنه قال: كان بدء نزول العرب إلى أرض العراق أن الله عز وجل اوحى إلى برخيا من ولد يهودا أن ائت بخت نصر فمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ويطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم وأعلمه بكفرهم بي واتخاذهم الآلهة دوني وتكذيبهم أنبيائي ورسلي، وعن غير ابن الكلبي أنه نظم ما بين أبلة والايلة خيلًا ورجالًا ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح قدروا عليه، وأوصى الله برخيا وإرميا بمعد بن عدنان الذي من ولده محمد المختوم به النبوة، وكان ذكر مشابهتهم لأهل الشرك تحقيرًا لشأنهم تجرئة على الإقدام عليهم إذ جعلهم مشابهين لمن دربوا قتالهم وضربوا عليهم فأذلوهم بعد أن كانوا في عزة لا يخشون زوالها، وعزائم شديدة لا يخافون انحلالها، كل ذلك بطاعة الله في قتالهم وطلب مرضاته بنزالهم لأنه عليهم، ومن كان عليه لم يفلح، وإلى مثل ذلك إشارة بقوله في حق هؤلاء: {قاتلهم الله} أي أهلكهم الملك الأعظم، لأن من قاتله لم ينج منه، وقيل: لعنهم؛ روي عن ابن عباس قال: وكل شيء في القرآن مثله فهو لعن {أنى يؤفكون} أي كيف ومن أين يصرفون عن الحق مع قيام الأدلة القاطعة عليه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}
وفي الآية مسائل:

.المسألة الأولى: [في أن من جوز الابن في حق الإله فقد أنكر الإله]:

اعلم أنه تعالى لما حكم في الآية المتقدمة على اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله، شرح ذلك في هذه الآية وذلك بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، ومن جوز ذلك في حق الإله فهو في الحقيقة قد أنكر الإله، وأيضًا بين تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك، وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة، إذ لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبودًا، فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك، بل إنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى، لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة الله.
أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جدًا، فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين، وأنهم إنما خصهم بقبول الجزية منهم، لأنهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى، وادعى أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل، فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين وتعظيم كتابيهما وتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى بسبب أنهم كانوا على الدين الحق، حكم الله تعالى بقبول الجزية منهم، وإلا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين.

.المسألة الثانية: في قوله: {وَقَالَتِ اليهود عَزِيزٌ ابن الله} أقوال:

الأول: قال عبيد بن عمير: إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء.
الثاني: قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة: أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: سلام بن مشكم، والنعمان بن أوفى، ومالك بن الصيف، وقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، ولا تزعم أن عزيرًا ابن الله، فنزلت هذه الآية.